ارشيف الذاكرة .. احرازي المرتبة الأولى
يمنات
أحمد سيف حاشد
ما بذلته من صبر وجهد ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالوجب ثم ما عده .. لم يفتني عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع الذي أراها مهمة، أو تفيد دراستي او ترسخ او تظيف الى معارفي العسكرية..
كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة “جلجامش” قرأتها وانا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالاضافة الى انها اقدم عمل أدبي للبشرية..
كانت المثابرة وقلة النوم يهدان قواي في بعض الأحيان.. أذكر في مادة “تدريب السيارات” وحالما كان استاذ المادة منهمكا بشرح قطعة من ماكينة سيارة وفيما كنا واقفون حوله ونستمع إليه، طحت أرضا من قوامي.. سقطت سقطة قوية، بدأ سقوطي وكأن نوبة مفاجئة داهمتني بغته وأنا واقف. وعندما أراد الطلاب يعرفون ماذا حدث! تفاجئوا بنهوضي السريع.. وقلت لهم: “ما فيش حاجة، فقط نمت وأنا واقف”؛ فازدادوا دهشة، وضحك الجميع..
كنت ملتزما في نوبات الحراسة الليلية رغم أنني لا أطيقها وأتململ منها، إلا إذا كانت حراسة إحدى القواعد الرادارية على ساحل عمران.. وفي أحدى نوبات الحراسة في الكلية، وفيما كنت قاعدا على الكرسي وبيدي البندقية، سقط رأسي وعنقي إلى الأسفل وهويت، فكادت نصلة السكين المثبتة في رأس البندقية أن تصيبني في عيني.. كانت درسا أيقضني طوال نوبات حراستي اللاحقة..
بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. ابذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.. بل حافظ على الجيد، وقوي مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. اسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. روم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..
كانت تعجني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جدا.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقا أو غير واثق من قدرتي في أصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز..
إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوما حليف معك.. الحظ يبقى حظا.. أبسط هزة ليديك أو لكتفك يمكنه أن يفسد فرحتك.. أصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جدا، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتياز؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول..
حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررت كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. واليوم حصدت ما أروم بعد كد عامين..
طعم التفوق لذيذا، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة.. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك.. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثاني، الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المنادة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة “توشيبا” أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للإنبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو شاهقا جدا!
المرة الاولى التي اشاهد فيها السِرك والمترو والساحة الحمراء و لينين المسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي عليه نظرة يتمني صاحبها أن تتمهل وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم عيني رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
أول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
***
يتبع..